في تحول ملحوظ يعكس تغيّر الموقف الأوروبي تجاه الحرب في غزة، قامت ألمانيا هذا الأسبوع بتوجيه انتقاد نادر لإسرائيل، مما يبرز استعداد القارة المتزايد للضغط على حكومة بنيامين نتنياهو بسبب الحصار والقصف المستمر على القطاع، وهو ما بات يختبر صبر بعض أقرب حلفاء إسرائيل، وفقًا لما ذكرته صحيفة واشنطن بوست الأمريكية.
الحرب على غزة
بعد ضربة إسرائيلية دامية استهدفت مدرسة تُستخدم كمأوى للنازحين في غزة، صرّح المستشار الألماني فريدريش ميرتس بأن الأذى الذي يُلحق بالمدنيين لم يعد مبررًا بذريعة محاربة حماس، في موقف يشكل انحرافًا حادًا عن الدعم الألماني غير المشروط لإسرائيل منذ بداية الحرب، كما حذّر ميرتس إسرائيل من تصرفات قد تدفع بأقرب أصدقائها إلى التخلي عنها في النهاية.
تزامنت تصريحاته مع إعلان الاتحاد الأوروبي عن فتح مراجعة شاملة لعلاقاته التجارية مع إسرائيل، بعد مرور أكثر من عام ونصف على اندلاع الحرب، وقد قادت هولندا، وهي من أبرز حلفاء إسرائيل في أوروبا، هذه الخطوة داخل التكتل المكون من 27 دولة، وفي خطوة لافتة، وصفت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، المعروفة بمواقفها المؤيدة لإسرائيل، التوسع العسكري الإسرائيلي في غزة بأنه أمر مروع.
بينما تطالب بعض الدول الأوروبية بتعليق كامل للعلاقات التجارية، تسعى أخرى إلى النأي بنفسها عن المشاهد الدموية الخارجة من القطاع، إلا أن التحرك الجماعي الأوروبي لم يتجاوز حتى الآن حدود التوبيخ، إذ يرى مسؤولون أن اتخاذ إجراءات عقابية سيكون أكثر تعقيدًا وقد يؤدي إلى انقسامات داخلية.
ورغم تنامي الاستياء من الحرب على جانبي الأطلسي، تتعارض التصريحات الأوروبية الأخيرة مع استمرار إدارة ترامب في الدفاع العلني عن إسرائيل، مما يشير إلى اتساع الفجوة بين واشنطن والعواصم الأوروبية في ملفات الأمن والتجارة، وهو ما يدفع الأوروبيين إلى اعتماد مسارات سياسية مستقلة في بعض الأحيان.
وأكد مسؤول أوروبي أنهم يطلعون نظراءهم الأمريكيين بانتظام على قراراتهم المرتبطة بإسرائيل، مضيفًا أن الطرفين لا يتفقان على نهج التعامل، وفي السياق نفسه، وصف متحدث باسم الخارجية الأمريكية انتقادات الحلفاء الغربيين بأنها استعراض سياسي، وأبدى خيبة أمله من قرار بريطانيا الأسبوع الماضي تعليق المفاوضات بشأن اتفاق تجاري جديد مع إسرائيل، وقد تحدث هذا المسؤول بشرط عدم الكشف عن هويته لمناقشة الخلافات بين الحلفاء.
كانت هناك محاولة أوروبية سابقة لإعادة النظر في العلاقات التجارية مع إسرائيل خلال مراحل سابقة من الحرب، إلا أنها فشلت، أما الجهود الحالية، فتتمتع بدعم أغلبية الدول الأعضاء، وأوضح وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس، الذي قاد المبادرة السابقة إلى جانب دول أخرى، أن ما دفع بعض نظرائه إلى تغيير مواقفهم هو ارتفاع مستوى العنف وقناعتهم بأن إسرائيل تخوض حربًا لمجرد الحرب.
من جهتها، قالت ناتالي توتشي، مديرة معهد الشؤون الدولية في روما والمستشارة السابقة للسياسة الخارجية الأوروبية، إن الحملة العسكرية الإسرائيلية وما نجم عنها من حصار وتجويع وقتل باتت مفرطة لدرجة جعلت الزعماء الأوروبيين عاجزين عن الصمت أو الارتباط بها، ولفتت إلى أن خطة إعادة احتلال غزة وطرد سكانها باتت أكثر وضوحًا، مما يعني أن إسرائيل لم تعد تُخفي شيئًا، الأمر الذي يحرج حلفاءها.
وقال دبلوماسي أوروبي، رفض الكشف عن هويته لمناقشة مشاورات داخلية، إن حالة السخط تزايدت مع تراجع صبر المسؤولين الأوروبيين تجاه نتنياهو، وتحت ضغط الرأي العام، وكذلك بعد التطورات الأخيرة في الحرب، وأبرزها الحصار الإسرائيلي شبه الكامل على الغذاء والدواء منذ نحو ثلاثة أشهر.
وأضاف: نستمر في مشاهدة هذه الصور الرهيبة الخارجة من غزة، يبدو أننا بلغنا الحد الذي لا يمكن تحمله، وهو ما يعكس شعورًا عامًا متزايدًا في أوروبا
ورغم أن الاتحاد الأوروبي يُعد أكبر مانح دولي للمساعدات الإنسانية للفلسطينيين، حيث أنفق مئات الملايين من اليوروهات على دعم غزة، فإن إسرائيل لا تزال تعرقل دخول المساعدات منذ مارس، وسط تحذيرات من الهيئات الدولية من خطر المجاعة الشاملة في القطاع، ولم تنجح بعض شحنات المساعدات المحدودة في الأيام الأخيرة في تهدئة المخاوف المتصاعدة.
وأكد دبلوماسيون أوروبيون أنه لا توجد أي نية لدى التكتل لتوجيه مساعداته عبر هذا المسار، الذي شهد في بداياته حالة من الفوضى وإطلاق نار إسرائيلي أدى إلى إصابات جماعية، وسط مشاهد لفلسطينيين محاصرين ينتظرون الغذاء.
بينما تُعد الولايات المتحدة أكبر داعم عسكري لإسرائيل، فإن الأوروبيين يمتلكون أوراق ضغط اقتصادية لم يُقدموا على استخدامها حتى الآن، إذ يُعد الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الأكبر لإسرائيل، وتحتل ألمانيا المرتبة الثانية بين أكبر موردي الأسلحة لها.
واعترف ميرتس بأن بلاده أكثر تحفظًا في انتقاد إسرائيل مقارنة ببعض جيرانها الأوروبيين، وذلك لأسباب تاريخية، حيث شددت القيادات الألمانية منذ هجوم السابع من أكتوبر 2023 على أن أمن إسرائيل يمثل مبدأ من مبادئ الدولة الألمانية، انطلاقًا من المسؤولية التاريخية عن المحرقة النازية.
وفي هذا السياق، أكد وزير الخارجية الألماني يوهان فاديبول على دعم بلاده لإسرائيل، لكنه حذر من استغلال هذا الدعم، مؤكدًا أن ألمانيا لن تُجبر على التضامن، ولوّح ضمنيًا بإمكانية وقف صادرات الأسلحة بسبب الانتهاكات الحقوقية.
وأشار دبلوماسي أوروبي آخر إلى أن إسرائيل تشعر بالفعل بوطأة الضغوط الأوروبية، في ضوء حملاتها النشطة ضد مراجعة الاتحاد الأوروبي للاتفاق الثنائي، والذي يشمل التجارة والحوار السياسي، وكانت وزارة الخارجية الإسرائيلية قد نددت بالقرار الأوروبي واعتبرته دليلًا على جهل تام بتعقيدات الواقع.
ومن المنتظر أن تخلص المراجعة الأوروبية إلى تقييم مدى خرق إسرائيل لبنود الاتفاق بسبب انتهاكات محتملة للقانون الدولي الإنساني، وهو ما قد يدفع الزعماء الأوروبيين إلى اتخاذ إجراءات أكثر حدة.
وأوضح دبلوماسي أوروبي أن بعض الحكومات ترى في المراجعة إشارة سياسية موجهة لإسرائيل، لكنه أقر بأن عدم تغيّر سياسات حكومة نتنياهو سيؤدي إلى تصاعد الضغوط من الشعوب الأوروبية على قادتهم لاتخاذ خطوات ملموسة.
ورغم تنامي رغبة الغرب في توجيه الانتقادات ورفع سقف التهديدات، لا تزال الدول الحليفة لإسرائيل تقدم لها الدعم العسكري والاقتصادي، في إطار تحالف ترى فيه وسيلة لحماية مصالحها في الشرق الأوسط، وقد أظهر الأوروبيون في الأسبوع الماضي محدودية تحركهم، إذ لم تتعد مواقفهم الدعوة إلى تحقيق بعد إطلاق الجيش الإسرائيلي طلقات تحذيرية على وفد دبلوماسي زائر في الضفة الغربية.