اقتصاد

من الطاقة إلى التقنية تبدأ مفاوضات خليجية يابانية لاقتصاد ما بعد النفط

يأمل الطرفان أن يفتح أي اتفاق مرتقب الباب أمام مرحلة جديدة من التعاون تتجاوز حدود الطاقة التقليدية

في ظل التغيرات الاقتصادية والجيوسياسية السريعة، انطلقت في العاصمة اليابانية طوكيو، مؤخراً، الجولة الثانية من مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة بين دول مجلس التعاون الخليجي واليابان، وسط آمال متزايدة في الوصول إلى اتفاق شامل يعزز التكامل الاقتصادي بين الجانبين.

يأمل الطرفان أن يفتح أي اتفاق مرتقب الباب أمام مرحلة جديدة من التعاون تتجاوز حدود الطاقة التقليدية، لتشمل قطاعات التقنية المتقدمة والخدمات والاقتصاد الأخضر.

تأتي هذه الجولة في إطار استئناف المفاوضات بين الجانبين بعد أكثر من عقد من الجمود، حيث توقفت المحادثات التجارية منذ عام 2009، قبل أن يُعلن الطرفان في نهاية 2024 عن استئنافها رسمياً، بعد جولة عُقدت في طوكيو بين الأمانة العامة لمجلس التعاون ومسؤولين من وزارة الاقتصاد والتجارة والصناعة اليابانية، وذلك في أعقاب تنامي العلاقات التجارية والاستثمارية خلال السنوات الأخيرة.

انطلاقة الجولة الثانية

بدأت أعمال الجولة الثانية رسمياً يوم 30 يونيو 2025، وتستمر حتى 4 يوليو، بمقر وزارة الاقتصاد اليابانية، بحضور وفود رسمية من جميع دول مجلس التعاون، وهي السعودية، الإمارات، قطر، الكويت، البحرين، وعُمان.

يرأس الوفد الخليجي وكيل محافظ الهيئة العامة للتجارة الخارجية السعودية فريد بن سعيد العسلي، بينما يقود الوفد الياباني مساعد وزير التجارة تاكاهيرو ناكامورا، إلى جانب خبراء من مكتب التجارة الدولية وممثلين عن القطاع الخاص.

تهدف هذه الجولة إلى مراجعة النصوص الفنية المقترحة للاتفاق، ووضع أطر واضحة لمجالات التعاون التجاري والاستثماري، مع تركيز خاص على 12 محوراً تفاوضياً، أبرزها: تحرير التجارة في السلع، المعايير الصحية والفنية، الخدمات المالية، خدمات الاتصالات، انتقال الأفراد، الملكية الفكرية، قواعد المنشأ، تسوية النزاعات، وسياسات المشتريات الحكومية

وفقاً لوسائل إعلام متعددة، فإن الاجتماعات الفنية التي سبقت الجولة الرسمية، والتي عُقدت يوم 29 يونيو، شهدت توافقاً أولياً حول الإطار المؤسسي للاتفاق، وآلية تنفيذ بعض البنود الخلافية، بما في ذلك قضايا قواعد المنشأ، وحقوق الملكية الفكرية الخاصة بالابتكارات المشتركة.

أهمية الاتفاق للطرفين

تمثل هذه المفاوضات، من وجهة نظر مجلس التعاون، فرصة استراتيجية لتنويع الشراكات الاقتصادية بعيداً عن الأسواق التقليدية في الغرب، وتعزيز اندماج الاقتصاد الخليجي في سلاسل التوريد العالمية، خاصة في مجالات الطاقة المتجددة، والهيدروجين الأخضر، والرقمنة، والتقنيات الطبية.

كما تسعى الدول الخليجية إلى ضمان نفاذ منتجاتها البتروكيميائية والصناعية إلى السوق اليابانية بشروط تنافسية، خاصة في ظل التحديات الجمركية التي تواجهها حالياً.

أما بالنسبة لطوكيو، يُعد الاتفاق بوابة حيوية لتأمين احتياجاتها الاستراتيجية من النفط والغاز، إذ تُشكل دول الخليج مجتمعة أكثر من 88٪ من واردات اليابان من النفط، وقرابة 25٪ من وارداتها من الغاز المسال.

تسعى اليابان لتوسيع تواجدها الاستثماري في مشاريع البنية التحتية الخليجية، والمساهمة في مبادرات التحول الوطني في السعودية والإمارات وقطر.

أرقام التجارة والاستثمار

وفق بيانات وزارة المالية اليابانية، بلغ حجم التبادل التجاري بين اليابان ودول مجلس التعاون نحو 153 مليار دولار خلال عام 2024، بزيادة قدرها 12٪ مقارنة بعام 2023.

تشكل السعودية والإمارات وحدهما أكثر من 70٪ من هذا الرقم، حيث صدرت طوكيو إلى الخليج سيارات، وآلات كهربائية، ومعدات طبية بقيمة تجاوزت 18 مليار دولار، بينما استوردت ما قيمته 135 مليار دولار من النفط الخام والغاز والمنتجات الكيماوية.

على صعيد الاستثمار، تجاوزت استثمارات الصناديق السيادية الخليجية في السوق اليابانية حاجز 45 مليار دولار حتى نهاية 2024، معظمها في قطاعات التكنولوجيا والصناعة الثقيلة.

في المقابل، تضاعف عدد الشركات اليابانية العاملة في الخليج ليصل إلى أكثر من 130 شركة، بينها “ميتسوبيشي”، و”سوميتومو”، و”ماروبيني”، التي تنشط في مشاريع النقل والطاقة والمياه.

التحديات التفاوضية القائمة

رغم الزخم السياسي والدعم المؤسسي للمفاوضات، يواجه الطرفان تحديات متعددة قد تعرقل التوصل إلى اتفاق نهائي خلال هذا العام، وتبرز في مقدمة هذه العقبات:

– اختلاف القواعد التنظيمية: خاصة في الجوانب المتعلقة بحماية البيانات، وسياسات المحتوى المحلي، والمشتريات الحكومية
– قواعد المنشأ: حيث تطالب دول الخليج باعتراف واسع بمنشأ المنتجات المصنعة ضمن مدنها الصناعية، بينما تصر طوكيو على شروط فنية أكثر تشدداً
– الملكية الفكرية: مع تزايد التعاون في الابتكار، تطالب اليابان بضمانات قانونية إضافية لحماية براءات الاختراع والبرمجيات المطورة بالتعاون المشترك
– تحرير الخدمات: حيث يتحفظ بعض الشركاء الخليجيين على فتح قطاعات الخدمات المالية والصحية بشكل كامل أمام المستثمرين الأجانب

العلاقات الخليجية اليابانية

ترتبط اليابان ودول الخليج بعلاقات اقتصادية تعود إلى ستينيات القرن الماضي، عندما بدأت طوكيو في استيراد النفط من السعودية والكويت.

ازدهرت العلاقة بشكل متسارع في العقود اللاحقة، مدفوعة بنمو الاقتصاد الياباني وارتفاع الطلب على الطاقة، مقابل حاجة دول الخليج إلى التكنولوجيا ورأس المال.

شهدت العلاقات الثنائية قفزة نوعية بعد توقيع عدة مذكرات تفاهم بين الجانبين منذ 2019، شملت التعاون في الطاقة النظيفة، والتقنيات الطبية، والأمن الغذائي.

استضافت اليابان خلال السنوات الماضية منتديات استثمارية دورية جمعت مسؤولين حكوميين وممثلي القطاع الخاص من الطرفين.

تشير التقديرات الأولية إلى إمكانية التوصل إلى اتفاق إطاري مبدئي بحلول نهاية 2025، على أن يُعلن عن التفاصيل خلال المنتدى الاستثماري الخليجي الياباني المقرر عقده في طوكيو خلال الربع الأخير من العام الجاري.

يعتمد نجاح الجولة الحالية على قدرة الوفود على تجاوز الملفات الفنية الشائكة، وتوفير الضمانات القانونية اللازمة للطرفين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى